الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب ***
ياما أميلح غزلاناً شدن لن *** من هؤليائكن الضال والسمر أورده على أن التصغير في فعل التعجب راجع إلى المفعول المتعجب منه، أي: هن مليحات، والتصغير للشفقة. وأنشده في باب التعجب أيضاً، على أن الكوفيين غير الكسائي زعموا اسميته، واستدلوا عليها بتصغيره في نحو البيت. وهذا جواب س: قال الشاطبي: وعلل ذلك سيبويه بأنهم أرادوا تصغير الموصوف بالملاحة، كأنك قلت مليح لكنهم عدلوا عن ذلك وهم يعنون الأول، ومن عادتهم أن يلفظوا بالشيء وهم يريدون شيئاً آخر. وقد ذكر ابن الأنباري في كتابه الإنصاف في مسائل الخلاف جميع أدلة الكوفيين مع أجوبة البصريين عنها فقال: ومن جملة أدلتهم أنهم استدلوا على اسميته بالتصغير. وأجاب عنه بثلاثة أوجه: أحدهما أن التصغير في هذا الفعل ليس على حد التصغير في الأسماء فإنه - على اختلاف ضروبه - من التحقير، والتقليل، والتقريب، والتحزن، والتعطف كقوله صلى الله عليه وسلم: أصيحابي، أصيحابي ، والتعظيم كقوله: دويهية تصفر منها الأنامل والتمدح كقوله: أنا جذيلها المحكك فإنه يتناول الاسم لفظاً ومعنى والتصغير اللاحق فعل التعجب إنما يتناوله لفضاً لا معنى، من حيث كان متوجهاً إلى المصدر، وإنما رفظوا ذكر المصدر هاهنا، لأن الفعل إذ أزيل عن التصرف لا يؤكد بذكر المصدر، لأنه خرج عن مذهب الأفعال؛ فلما رفضوا المصدر وآثروا تصغيره صغروا الفعل لفظاً ووجهوا التصغير إلى المصدر، وجاز تصغير المصدر بتصغير فعله لأن الفعل يقوم في الذكر مقام مصدره لأنه يدل عليه بلفظه؛ ولهذا يعود الضمير إلى المصدر بذكر فعله وإن لم يجر له ذكر، فكما يجوز عود الضمير إلى المصدر وإن لم يجر له ذكر، استغناء بذكر فعله، فكذلك يجوز أن يتوجه التصغير اللاحق لفظ الفعل إلى مصدره وإن لم يجر له ذكر. ونظيره إضافة أسماء الزمان إلى الفعل نحو: هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم . وإنما جاز لأن المقصود بالإضافة إلى الفعل مصدره، من حيث كان ذكر الفعل يقوم مقام ذكر مصدره، فكما أن هذه الإضافة لفظية لا اعتداد بها فكذلك التصغير لفظي لا اعتداد به. الوجه الثاني: إنما دخله التصغير حملاً على باب أفعل التفضيل، لاشتراك اللفظين في التفضيل والمبالغة، ألا ترى أنك تقول: ما أحسن زيداً - لمن بلغ الغاية في الحسن - كما تقول: زيد أحسن القوم، فتجمع بينه وبينهم في أصل الحسن وتفضله عليهم. والثالث: إنما دخله التصغير لأنه ألزم طريقة واحدة، فأشبه بذلك الأسماء، فدخله بعض أحكامها. وحمل الشيء على الشيء في بعض أحكامه لا يخرجه عن أصله، ألا ترى أن اسم الفاعل محمول على الفعل في العمل ولم يخرج بذلك عن كونه اسماً؟ وكذلك المضارع محمول على الاسم في الإعراب ولم يخرج بذلك كونه فعلاً. ويا حرف نداء، والمنادى محذوف، أي: يا صاحبي ونحوه. والملاحة: البهجة، وحسن المنظر. وفعله ملح الشيء بالضم ملاحة. وملح الرجل وغيره ملحاً من باب تعب: اشتدت زرقته، وهو الذي يضرب إلى البياض، فهو أملح وهي ملحاء، والاسم الملحة كغرفة. والغزلان: جمع غزال، وهو ولد الظبية؛ قال أبو حاتم: الظبي أول ما يولد هو طلا، ثم هو غزال والأنثى غزالة، فإذا قوي وتحرك فهو شادن، فإذا بلغ شهراً فهو شصر بمعجمة ومهملة مفتوحتين - فإذا بلغ ستة أشهر وسبعة فهو جداية - بفتح الجيم - للذكر والأنثى وهو خشف أيضاً. والرش: الفتي من الظباء، فإذا أثنى فهو ظبي، ولا يزال ثنياً حتى يموت، والأنثى ثنية وظبية. والثني: الذي يلقى ثنيته: أي سنه - من ذوات الظلف والحافر - في السنة الثالثة؛ يقال أثني فهو ثني، فعيل بمعنى فاعل. وشدن ماضي شدن الغزال بالفتح يشدن بالضم شدوناً: قوي وطلع قرناه واستغنى عن أمه. وربما قالوا شدن المهر. وأشدنت الظبية فهي مشدن، إذا شدن ولدها، النون الثانية ضمير الغزلان. وجملة شدن صفة غزلان. ولنا ومن متعلقان بشدن. وقوله من هؤليائكن هو مصغر هؤلاء، شذوذاً، وأصله أولاً بالمد والقصر. وها للتنبيه، وهو اسم إشارة يشار به إلى جمع سواء كان مذكر ومؤنثاً، عاقلاً أم غير عاقل. والكاف حرف خطاب. والنون حرف أيضاً لجمع الإناث. وقد استشهد به النحاة على دخول ها التنبيه، وعلى تصغيره شذوذاً، وقد رواه الجوهري: من هؤلياء بين الضال والسمر وقال: ولم يصغروا من الفعل غير هذا وغير قولهم ما أحيسنه. والضال صفة اسم الإشارة وعطف بيان. والضال: السدر البري، جمع ضالة، ولهذا صح إتباعه لاسم الإشارة إلى الجمع، وألفه منقلبة من الياء. والسدر: شجر النبق، الواحدة سدرة. وما نبت منها على شطوط الأنهار فهو العبري، نسبة إلى العبر بالضم، وهو شط النهر وجانبه. والسمر بفتح السين وضم الميم: جمع سمرة، وهو شجر الطلح. والطلح: نوع من العضاه، وهو شجر عظام والعضاه بكسر العين: جمع عضاهة، وهو كل شجر عظيم وله شوك. وهذا البيت من جملة أبيات ذكرها هشام في شرح شواهده وهي: البسيط حوراء لو نظرت يوماً إلى حجر *** لأثرت سقماً في ذلك الحجر يزداد توريد خديها إذا لحظت *** كما يزيد نبات الأرض بالمطر فالورد وجنتها والخمر ريقته *** وضوء بهجتها أضوا من القمر يا من رأى الخمر في غير الكروم ومن *** هذا رأى نبت ورد في سوى الشجر كادت ترف عليها الطير من طرب *** لما تغنت بتغريد على وتر بالله، يا ظبيات القاع، قلن لن *** ليلاي منكن أم ليلى من البشر ياما أميلح غزلاناً شدن لن ***.......... البيت وروى العباسي في معاهد التنصيص عن بعضهم أنه من أبيات لبعض الأعراب. وذكرها في الدمية للباخرزي أنه أول أبيات ثلاثة لبدوي اسمه كامل الثقفي، ثانيهما: بالله يا ظبيات القاع قلن لنا.. البيت وثالثها: إنسانة الحي أم أدمانة السمر *** بالنهي رقصها لحن من الوتر وقال العيني: إنه من قصيدة للعرجي، ومنها بالله يا ظبيات القاع.. البيت. وهذا البيت قد روي للمجنون، ولذي الرمة، وللحسين بن عبد الله. والله أعلم. ثم رأيت الصاغاني قال في العباب: يقولون ما أميلح زيداً. ولم يصغروا من الفعل غيره وغير قواهم ما أحيسنه. قال الحسين بن عبد الرحمن العريني: بالله يا ظبيات القاع قلن لنا ***........ البيت بانت لنا بعيون من براقعه *** مملوءة مقل الغزلان والبقر ياما أميلح غزلان شدن لنا. والأدمانة قال الجوهري: والأدم من الظباء بيض تعلوهن جدد، فيهن غبرة، تسكن الجبال، يقال: ظبية أدماء. وقد جاء في شعر ذي الرمة أدمانة، قال: البسيط أقول للركب لما عارضت أصل *** أدمانة لم تربيها الأجاليد وأنكره الأصمعي. والنهي بكسر النون وسكون الهاء: الغدير في لغة نجد، وغيرهم يقول بالفتح، كذا في الصحاح. وقال السخاوي في شرح المفصل: والنحاة ينشدون: ياما أميلح غزلانا البيت، ظناً منهم أنه شعر قديم، وإنما هو لعلي بن محمد العريني، وهو متأخر، وكان يروم التشبيه بطريقة العرب في الشعر، وله مدح في علي بن عيسى وزير المقتدر. وقتل المقتدر في شوال سنة عشرين وثلاثمائة. ونسبه قوم من النحاة إلى مجنون بني عامر وأنشدا معه: بالله يا ظبيات القاع، البيت، والصحيح ما قدمته. والعرجي اسمه عبد الله، وهو أموي، وإنما لقب العرجي لأنه كان يسكن العرج. قال في الصحاح: والعرج منزل بطريق مكة، وإليه ينسب العرجي الشاعر . ولم يكن له نباهة في أهله، مات في حبس محمد بن هشام بن إسماعيل المخزومي، وهو خال هشام بن عبد الملك، وكان والياً بمكة بعد ضرب كثير وتشهير في الأسواق، لأنه شبب بأمه ليفضحه، لا لمحبة كانت بينه وبينها. وقال في حبسه قصيدته التي منه: الوافر كأني لم أكن فيهم وسيط *** ولم تك نسبتي من آل عمرو أضاعوني وأي فتى أضاعو *** ليوم كريهة وسداد ثغر وكان من الفرسان المعدودين مع مسلمة بن عبد الملك بأرض الروم. وترجمته مع أحواله مفصلة في الأغاني والمعاهد. وأنشد في باب المعرب، وهو من شواهد سيبويه، وهو تكتبان في الطريق لام ألف على أن مقصود الشاعر اللام والهمزة ، لا صورة لا ، فيكون معناه أنه تارة يمشي مستقيماً فتخط رجلاه خطاً شبيهاً ب الألف ، وتارة يمشي معوجاً فتخط رجلاه خطاً شبيهاً ب اللام . وعليه فالظاهر أن يقول لاماً وألفاً. وجهه أنه حذف التنوين من الأول من باب الوصل بنية الوقف، وحذف العاطف ووقف على الثاني على لغة ربيعة، وليس في واحد من هذه الثلاثة ضرورة. ووجه هذا البيت ابن جني في سر الصناعة بوجهين آخرين فقال: إنما أراد كأنهما تخطان حروف المعجم، لا يريد بعضها دون بعض، وقد يمكن أنه أراد بقوله لام ألف شكل لا ، فإنه تلقاه من أفواه العامة، لأن الخط ليس له تعلق بالعرب ولا عنهم يؤخذ. وقول من لا خبرة له بحروف المعجم كالمعلمين لام ألف خطأ، وصواب النطق به لا، فإنه اسم الألف اللينة التي تكون قبل الياء في آخر حروف المعجم . وفيما قاله نظر من وجهين: الأول: قال الدماميني في شرح المغني: نسبة العربي الفصيح إلى أنه اعتمد في النطق على العامة أمر بعيد لا يلتفت ليه. وقوله لأن الخط لا تعلق له بالفصاحة ساقط، لأن ما صدر عنه لفظ لا خط. الثاني: أن قوله لام ألف خطأ ممنوع، فإنه قد ورد في الشعر، أنشد أبو زيد في نوادره لراجز يصف جندياً، وقيل غراب: الرجز يخط لام ألف موصول *** والزاي والرا أيما تهليل وسيأتي شرحه في الشاهد الثاني بعد هذا. وأما ما أورده أبو بكر الشنواني في جواب أسئلة السيوطي بقوله: قال: روى أبو ذر الغفاري رضي الله عنه أنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله كل نبي يرسل بم يرسل؟ قال: بكتاب منزل. قلت: يا رسول الله أي كتاب أنزله الله على آدم؟ قال: كتاب المعجم ألف با تا ثا إلى آخرها. قلت: يا رسول الله كم حرفاً؟ قال تسع وعشرون. قلت: يا رسول الله عددت ثمانية وعشرين؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احمرت عيناه ثم قال: يا أبا ذر، والذي بعثني بالحق نبياً، ما أنزل الله على آدم إلا تسعة وعشرين حرفاً. قلت: أليس فيها ألف ولام؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لام ألف حرف واحد، قال: أنزله الله تعالى على آدم في صحيفة واحدة ومعه سبعون ألف ملك، من خالف لام ألف فقد كفر بما أنزل علي، من لم يعد لام ألف فهو بريء مني وأنا بريء منه، ومن لم يؤمن بالحروف وهي تسعة وعشرون لا يخرج من النار أبداً . فهو موضوع. قال ابن عراق: سئل عنه ابن تيمية فقال: لا أصل له، ولوائح الوضع عليه ظاهرة، ولا سيما في آخره، فهو كذب قطعاً. وعلى هذا فالفرق بين لا وبين لام ألف: أن لا اسم الألف اللينة، ولام ألف اسم لا ، لأنها على صورة اللام والهمزة إذا كتبتا معاً. وعلم مما تقدم أن بيت الشاهد إنما هو بإضافة لام إلى ألف بكون أصل لام ألف مركباً مزجياً، فأعرب بإضافة أحد الجزءين إلى الآخر على أحد الوجوه. لا كما زعمه الشارح وتبعه الدماميني في شرح المغني. ثم قال ابن جني: وإنما لم يجز أن تفرد الألف اللينة من اللام وتقام بنفسها - كما أقيم سائر حروف المعجم سواها بأنفسها - من قبل أنها لا تكون إلا ساكنة تابعة للفتحة، والساكن لا يمكن ابتداؤه، فدعمت باللام ليقع الابتداء بها. ويؤيد هذا أن واضع حروف المعجم إنما رسمها منثورة غير منظومة، فلو كان غرضه في لا أن يرينا كيفية تركب اللام مع الألف للزمه أيضاً أن يرينا كيف تركب الجيم مع الطاء، والقاف مع التاء، وغير ذلك مما يطول تعداده؛ وإنما غرضه التوصل إلى النطق بالألف، فدعم باللام ليمكن الابتداء به. فإن قيل: ما بالهم دعموه باللام دون سائر الحروف؟ أجيب بأنهم خصوا اللام من قبل إنهم لما احتاجوا لسكون لام التعريف إلى حرف يقع الابتداء به قبلها أتوا بالهمزة فقالوا: الغلام، فكما أدخلوا الألف قبل اللام كذلك أدخلوا اللام قبل الألف ليكون ذلك ضرباً من التقارض . واعترض عليه الدماميني بأن الذي توصل به إلى النطق بلام التعريف هو الهمزة لا الألف، والذي توصل باللام إلى النطق به هو الألف الهوائي لا الهمزة. فلا تقارض. وفيه أنهما أخوان يبدل كل منهما إلى الآخر فتبدل الهمزة ألفاً في نحو راس، وتبدل الألف همزة في نحو دأبة وشأبة وحبلأ في الوقف، وفي هذا القدر من الاشتراك يتحقق التقارض. واستشهد به سيبويه على أنه ألقى حركة ألف على ميم لام وكذلك أورده الشارح في شرح الشافية أيضاً في باب التقاء الساكنين. على أنه نقل حركة همزة ألف إلى ميم لام، كما نقلت حركة همزة أربعة إلى الهاء في قولك: ثلاثة أربعة، إذا وصلت ثلاثة بما بعدها. وهذا البيت ثالث أبيات ثلاثة لأبي النجم العجلي، وهي: الرجز خرجت من عند زياد كالخرف *** تخط رجلاي بخط مختلف تكتبان في الطريق لام ألف قال المرزباني في الموشح - وهو طبقات الشعراء في الجاهلية والإسلام أخبرني الصولي قال: حدثنا القاسم بن إسماعيل قال: أنشدنا محمد بن سلام لأبي النجم العجلي، وكان له صديق يسقيه الشراب فينصرف من عنده ثملاً: أخرج من عند زياد كالخرف.. الأبيات قال الصولي: وقد عيب أبو النجم بهذا فقيل: لولا أنه كان يكتب ما عرف صورة لام ألف وعناقها لها . وقد عرفت ما فيه: وروي أيضاً: أقبلت من عند زياد إلخ والخرف: صفة مشبهة من خرف الرجل خرفاً، من باب تعب: فسد عقله لكبره. وخط على الأرض خطاً: أعلم علامة. وخط بيده خطاً: كتب. وكتب، يقال بالتخفيف والتثقيل، والتثقيل هنا لتكثير الفعل. وأبو النجم هو الفضل بن قدامة بن عبيد الله بن عبد الله بن الحارث ابن عبدة بن الحارث بن الياس بن العوف بن ربيعة بن مالك بن عجل بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل. وهو أحد رجاز الإسلام المتقدمين في الطبقة الأولى. قال أبو عمرو بن العلاء: هو أبلغ من العجاج في النعت. قال ابن قتيبة في طبقات الشعراء: كان أبو النجم ينزل سوق الكوفة. وراجز العجاج فخرج إليه العجاج على ناقة له كوماء، وعليه ثياب حسان، وخرج أبو النجم على جمل مهنوء، وعليه عباءة، فأنشد العجاج: الرجز قد جبر الدين الإله فجبر وأنشد أبو النجم: تذكر القلب وجهلاً ما ذكر حتى بلغ قوله: إني وكل شاعر من البشر *** شيطانه أنثى وشيطاني ذكر فما رآني شاعر إلا استتر *** فعل نجوم الليل عاين القمر فبينا هو ينشد، إذ وثب جمله على ناقة العجاج، فضحك الناس وانصرفوا يقولون: شيطانه أنثى وشيطاني ذكر وقال هشام بن عبد الملك يوماً: يا أبا النجم، حدثني. قال: عني وعن غيري؟ قال: بل عنك. قال: إني لما كبرت عرض لي البول، فوضعت عند رجلي شيئاً أبول فيه، فقمت من الليل أبول فخرج مني صوت، فتشددت ثم عدت فخرج مني صوت آخر، فأويت إلى فراشي فقلت: يا أم الخيار، هل سمعت شيئاً؟ قالت: لا، ولا واحدة منهما! فضحك هشام وأحسن إليه بصلة. وله معه نوادر ومضحكات مذكورة في الأغاني وغيرها. وسنورد له إن شاء الله منها إذا ورد شاهد من شعره. وأنشده بعده وهو تداعين باسم الشيب في متثلم على أن اسم الصوت إنما أعرب في هذا للتركيب، وإن كان بناؤه أصلياً. يريد أن أسماء الأصوات إذا ركبت جاز إعرابها، اعتباراً بالتركيب العارض بشرط إرادة اللفظ لا المعنى، كما يجوز إعراب الحروف إذا قصد ألفاظها. والإعراب مع اللام أكثر من البناء لكونه علامة الاسم الذي أصله في الإعراب، لكنها لا توجبه بدليل الآن والذي والخمسة عشر . كذا فصله الشارح في باب الصوت. وعجز هذا المصراع: جوانبه من بصرة وسلام وهو من قصيدة لذي الرمة يمدح بها إبراهيم بن هشام بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم. وقبل بيت الشاهد: وكم عسفت من منهل متخط *** أفل وأقوى، فالجمام طوامي إذا ما وردنا لم نصادف بجوفه *** سوى واردات من قطا وحمام إذا ساقيانا أفرغا في إزائه *** على قلص بالمقرفات حيام تداعين باسم الشيب.. ***......... البيت يصف قطعة القفار على إبله. والعسف: الأخذ على غير هدى، والضمير المستتر راجع إلى الإبل العيس. والمنهل: المورد، وهو عين ماء ترده الإبل. والمنهل المتخط: الذي تخطأه الناس فلم ينزلوه. وأفل ، بالفاء، فعل ماض بمعنى لم يصبه مطر، وهو مع ضميره صفة المنهل، وهذا سبب كون الناس لم ينزلوا فيه. يقال أرض فل بالكسر: لا نبات فيها لعدم المطر. وأقوى بمعنى خلا، يقال أقوت الدار وقويت أيضاً أي: خلت. والجمام: بكسر الجيم جمع جمة بضمها، وهو المكان الذي اجتمع فيه ماؤه. وطوامي: مملوءة، جمع طام اسم فاعل من طما الماء يطمو طمواً كسمو، إذا ارتفع وملأ النهر. وساقيان: تثنية ساق، وهو من يستقي الماء من البئر. والإزاء، بكسر الهمزة والزاي معجمة: مصب الماء في الحوض، قال أبو زيد: هو صخرة، وما جعلت وقاية على مصب الماء حين يفرغ الماء، ويقال أزيت الحوض تأزية، وآزيته بالمد إزاء. وعلى قلص متعلق بأفرغا. والقلص، بضمتين: جمع قلوص، وهي الناقة الشابة. والحيام بكسر المهملة: جمع حوم، والحوم بالفتح: القطيع الضخم من الإبل. وب المقفرات صفة لقلص، من أقفرت الدار: إذا خلت. وتداعين: دعا بعض القلص بعضاً، وروى تنادين من النداء والجملة جواب إذا. والشيب بالكسر حكاية أصوات مشافر الإبل عند الشرب، والصوت شيب شيب، جعل هذا الصوت مما يدعوهن إلى الشرب، ويأتي إن شاء الله تعالى في باب الإضافة الكلام إضافة اسم إلى الشيب. والمتثلم: المتكسر المتهدم، أراد في حوض متثلم، فحذف الموصوف لدلالة مصب الحوض عليه، يقال: ثلمته من باب ضرب كسرته فانثلم وتثلم. والبصرة ، بفتح الباء: حجارة رخوة فيها بياض، وبه سميت البصرة . والسلام بكسر المهملة: جمع سلمة بفتحها وكسر اللام، وهي الحجارة. وذو الرمة هو غيلان بالمعجمة ابن عقبة، من بني صعب بن مالك بن عدي بن عبد مناة. ويكنى أبا الحارث. وسمي ذا الرمة بقوله: لم يبق فيها أبد الأبيد *** غير ثلاث ماثلات سود وغير مرضوخ القفا موتود *** أشعث باقي رمة التقليد والرمة: بضم الراء وتشديد الميم: قطعة من الحبل الخلق، ويجوز كسرها. وقال ثعلب: إن مية لقبته بذلك، وذلك أنه مر بخبائها قبل أن يشبب بها، فرآها فأعجبته، فأحب الكلام معها، فخرق دلوه وأقبل إليها وقال: يا فتاة اخرزي لي هذا الدلو. فقالت: إنني خرقاء - والخرقاء: التي لا تحسن عملاً - فخجل غيلان، ووضع دلوه على عنقه، وهي مشدودة بقطعة حبل بال، وولى راجعاً. فعلمت مية ما أراد، فقالت: يا ذا الرمة انصرف. فانصرف، فقالت له: إن كنت أنا خرقاء فإن أمتي صناع، فاجلس حتى تخرز دلوك. ثم دعت أمتها فقالت: اخرزي له هذا الدلو. وكان ذو الرمة يسمي مية خرقاء لقولها إنني خرقاء. وغلب عليه ذو الرمة لقولها يا ذا الرمة،. وهذا خلاف ما نقله ابن قتيبة في كتاب الشعراء أن مية بنت فلان ابن طلبة ابن قيس. وهي غير الخرقاء، فإن الخرقاء من بني البكاء بن عامر. وكان سبب تشبيبه بها أنه مر في بعض أسفاره ببعض البوادي، وإذا خرقاء خارجة من خباء لها، فنظر إليها فوقعت في قلبه، فخرق إدواته ودنا منها وقال: إني رجل على ظهر سفر، وقد تخرقت إدواتي فأصلحيها - يستطعم بذلك كلامها - فقالت: والله إني ما أحسن العمل، وإني لخرقاء. والخرقاء: التي لا تعمل بيدها شيئاً لكرامتها على أهلها. فشبب بها وسماها خرقاء. وقال أبو العباس الأحول: سمي ذا الرمة لأنه خشي عليه العين وهو غلام فأتي به إلى شيخ من الحي، وصنع له معاذة، وشدت في عضده بحبل. والمشهور القول الأول. قال حماد الراوية: امرؤ القيس أحسن الجاهلية تشبيهاً، وذو الرمة أحسن الإسلام تشبيهاً، وما أخر القوم ذكره إلا لحداثة سنه وأنهم حسدوه؛ وكان الفرزدق وجرير يحسدانه على شعره. ولقيه جرير فقال: هل لك في المهاجاة؟ قال: لا. قال: كأنك هبتني. قال: لا والله، ولكن حرمك قد هتكهن السفل، وما أرى في نسوتك مترقعاً. قال أبو المطرف: لم يكن أحد من القوم في زمانه أبلغ منه ولا أحسن جواباً، ولقد عارضه رجل بسوق الإبل في البصرة يهزأ به، فقال: يا أعرابي، أتشهد بما لا ترى؟ قال: نعم؛ أشهد بأن أباك ناك أمك! وقال أبو عمرو بن العلاء مرة: ختم الشعر بذي الرمة والرجز برؤبة. وقال أخرى - كما في الموشح للمرزباني - شعر ذي الرمة نقد عروس تضمحل عن قليل، وأبعار ظباء لها مشم في أول شمها ثم تعود إلى أرواح البعر وإنما وضع منه لأنه كان لا يحسن الهجاء والمدح.. قال المبرد: معنى قوله نقط عروس أنها تبقى أول يوم ثم تذهب؛ وبعر الظباء إذا شممته من ساعته وجدت فيه كرائحة المسك، فإذا غب ذهب ذلك منه. وقد أسند هذا التعبير في حقه إلى جماعة منهم الفرزدق وجرير. قال الأصمعي: إن شعر ذي الرمة حلو أول ما تسمعه، فإذا كثر إنشاده ضعف ولم يكن له حسن، لأن أبعار الظباء أول ما تشم توجد لها رائحة ما أكلت من الشيح والقيصوم والجثجاث والنبت الطيب الريح، فإذا أدمت شمه ذهبت تلك الرائحة، ونقط العروس إذا غسلتها ذهبت. وقال ابن قتيبة: وقف ذو الرمة في سوق الإبل ينشد شعره الذي يذكر فيه ناقته صيدح. فوقف عليه الفرزدق فقال: كيف ترى ما تسمع يا أبا فراس؟ قال: ما أحسن ما تقول! قال: فمالي لا أذكر مع الفحول! قال: قصر بك عن غايتهم بكاؤك في الدمن، ونعتك الأبعار والعطن. ومات بالبادية ولما حضرته الوفاة قال: أنا ابن نصف الهرم. أي ابن الأربعين. وقال المفضل الضبي: كنت أنزل على بعض الأعراب إذا حججت، فقال لي يوماً: هل لك في خرقاء صاحبة الرمة؟ قلت: بلى. فتوجهنا نريدها فعدل بي عن الريق بقدر ميل، فإذا أبيات فقرع باباً منها فخرجت إلينا امرأة حسانة بها قوة فتحدثا طويلاً فقالت: أحججت قبل هذه؟ قلت: بلى. قالت: فما منعك من زيارتي؟ أما علمت أني منسك من مناسك الحج؟ قلت: وكيف ذلك؟ قالت: أما سمعت قول ذي الرمة: الوافر تمام الحج لا تقف المطاي *** على خرقاء واضعة اللثام وفي الأغاني عن ابن قتيبة: أن مية جعلت لله عليها أن تنحر بدنه يوم تراه. فلما رأته رجلاً دميماً أسود، وكانت من أجمل النساء فقالت: واسوءتاه، واضيعة بدنتاه! فقال ذو الرمة: على وجه مي مسحة من ملاحة *** وتحت الثياب الشين لو كان باديا قال: فكشفت ثوبها عن بدنها وقالت: أشيناً ترى لا أم لك؟ فقال: ألم تر أن الماء يخبث طعمه *** وإن كان لون الماء أبيض صافيا فقالت: أما ما تحت الثياب فقد رأيته وعلمت أن لا شين فيه، ولم يبق إلا أن أقول هلم حتى تذوق ما وراءه! والله لا ذقت ذلك أبداً فقال: فيا ضيعة الشعر الذي لج وانقضى *** بمي ولم أملك ضلال فؤاديا قال: ثم صلح الأمر بينهما بعد ذلك، فعاد إلى ما كان عليه من حبها. ثم قال صاحب الأغاني: أن مية كانت لها بنت عم قالت على لسان ذي الرمة: على وجه مي مسحة من ملاحة الأبيات. فكان ذو الرمة إذا ذكر ذلك له يتمعض منه ويحلف أنه ماقاله قط. وأنشد بعده وهو إذا اجتمعوا على ألف وواو *** وياء هاج بينهم جدال على أن أسماء حروف المعجم تعرب إذا ركبت وإن كان بناؤها أصلياً. قيل: حيث كانت معربة لأجل التركيب علم أنها قبل التركيب غير معربة، وهذا حكم جميع الأسماء، سواء قلنا أنها قبل التركيب موقوفة أم مبنية، فما الفرق بينها وبين سائر الأسماء؟ أقول: الفرق أن أسماء حروف الهجاء إنما وضعت لسردها مفردة للتعليم، لا لأن تكون مركبة مع عامل، فالتركيب فيها عارض بخلاف سائر الأسماء فإنها إنما وضعت للتركيب، وسردها منثورة أمر عارض. ثم رأيت الشارح المحقق قد ذكر ما قلته في مواضع أخر من شرحه فقال: إن أسماء حروف المعجم لم توضع إلا لتستعمل مفردات، لتعليم الصبيان ومن يجري مجراهم، موقوفاً عليهم. فإذا استعملت مركبة مع عامليها فقد خرجت عن حالها الموضوعة لها. وهذا مذهب ابن جني في سر الصناعة حيث قال: اعلم أن هذه الحروف ما دامت حروف هجاء فإنها سواكن الأواخر في الدرج والوقف، لأنها أصوات بمنزلة صه ومه، فإن وقعت موقع الأسماء أعربت . وأراد الشارح بإعرابها عند التركيب وجوب إعرابها كما نص عليه في موضع آخر فقال: إذا أردت إعراب أسماء حروف المعجم الكائنة على حرفين ضعفت الألف وقلبتها همزة. ولا تجوز الحكاية في أسماء حروف المعجم مع التركيب مع عاملها . وأغرب السيوطي في جمع الجوامع وشرحه فقال: وأسماء الحروف ألف با تا ثا إلى آخرها وقف، إلا مع عامل فالأجود حينئذ فيها الإعراب ومد المقصور منها، ويجوز فيها الحكاية كهيئتها بلا عامل، ويجوز ترك المد بأن يعرب مقصوراً منوناً. كما إذا تعاطفت فإن الأجواد فيها الإعراب والمد وإن لم يكن عامل . انتهى. فجوز مع العامل الحكاية والقصر، كما إذا لم تكن مع عامل؛ وجوز أيضاً إعرابها مع القصر، وجوز في التعاطف مع عدم العامل الإعراب والمد. وأما الأول فصرح بمنعه ابن جني والشارح. وأما الثاني فمنعه ابن جني أيضاً فقال: فأما ما كان من نحو با تا فإنك متى أعربته لزمك أن تمده؛ وذلك أنه على حرفين، الثاني منهما حرف لين، والتنوين يدرك الكلمة فتحذف الألف لالتقاء الساكنين، فيلزمك أن تقول بن وتن يا فتى، فيبقى الاسم على حرف واحد، فإن ابتدأته وجب أن يكون متحركاً، وإن وقفت عليه وجب أن يكون ساكناً، وهذا طاهر الاستحالة. فأما ما روى شربت ماً يريد ماء، فحكاية شاذة لا نظير لها، ولا يسوغ قياس غيرها عليها، وإذا كان الأمر كذلك زدت على ألف با تا ألفاً أخرى، كما رأيت العرب فعلت حين أعربت لوا فقالو: الخفيف إن لواً وإن ليتاً عناء وأما قول الشاعر: بخط لام ألف موصول *** والزاي والرا أيما تهليل إنما أراد الراء ممدودة، فلم يمكنه ذلك لئلا يكسر الوزن، فحذف الهمزة من الراء، وجاء بذلك على قراءة أبي عمرو وتحقيقه الأولى من الهمزتين إذا التقتا من كلمتين وكانتا جميعاً متفقتي الحركتين، نحو: فقد جاء أشراطها وشاء أنشره ؛ وكذلك كان اصل هذا والزاي والراء أيما تهليل ، فلما اتفقت الحركتان حذف الأولى من الهمزتين. وأما الثالث فلا وجه للإعراب والمد جميعاً مع عدم العامل. وأظن أن السيوطي لخص كلامه من الارتشاف لأبي حيان، وأصله من المقصور والممدود لابن الأنباري، وتبعه أبو علي القالي - في المقصور والممدود له أيضاً - حرفاً يحرف - فقالا: وما كان من حروف الهجاء على حرفين فالعرب تمده وتقصره فيقولون: باء وتاء، ومنهم من يقصر فيقول با وتا، ومنهم من ينون فيقول باً وتاً. قال يزيد بن الحكم يذكر النحويين: إذا اجتمعوا على ألف وواو *** وياء..... البيت والزاي فيها خمسة أوجه: من العرب من يمدها فيقول زاء فاعلم، ومنهم من يقول زاي، ومنهم من يقول هذه زا، فيقصرها، ومنهم من بنون فيقول زاً، ومنهم من يقول زي فيشدد. وأنشد الفراء: بخط لام ألف موصول *** والزاي والرا أيما تهليل انتهى. فأنت تراهما كيف أطلقا ولم يفصلا؛ وهو مخالف لكلام الناس. ومراد الشارح بالتركيب أن تقع مع عامل، نحو أول الجيم جيم، وأوسط السين ياء، وكتبت ياء حسنة. وكذلك العطف فيقال: ما هجاء بكر؟ فنقول. باء وكاف وراء، وكبيت الشاهد. فإن لم تعطف تبن، فتقول باء، كاف، راء، بإسكان الأواخر. وبيت الشاهد ليزيد بن الحكم، كما نسبه إليه الزجاج في أول تفسيره وابن الأنباري، وأبو علي القالي. وروى الحريري في درة الغواص عن الأصمعي أنه قال: أنشدني عيسى بن عمر بيتاً هجا به النحويين، يعني أنهم إذا اجتمعوا للبحث عن إعلال حروف العلة ثار بينهم جدال. والجدال: مصدر جادل إذا خاصم بما يشغل عن ظهور الحق ووضوح الصواب، وهذا أصله، ثم استعمل في لسان حملة الشرع في مقابلة الأدلة في ظهور أرجحها. وهو محمود إن كان الوقوف على الحق، وإلا فمذموم، يقال: إن أول من دون الجدل أبو علي الطبري. ويروى بدله قتال . أما يزيد بن الحكم فهو يزيد بن الحكم بن أبي العاص الثقفي البصري، الشاعر المشهور. ومن قال يزيد بن الحكم بن عثمان بن أبي العاص فقد وهم، فإن عثمان جده وعم أبيه أحد أسلم من ثقيف يوم الطائف. حدث عن عمه عثمان المذكور، وروى عنه معاوية بن قرة وعبد الرحمن بن إسحاق. حكى أن الفرزدق مر على يزيد هذا وهو ينشد في المسجد، فقال: من هذا الذي ينشد شعراً كأنه شعرنا؟ قالوا: يزيد بن الحكم. فقال: أشهد بالله أن عمتي ولدته. وأم يزيد: بكرة من الزبرقان من بدر. وأمها هنيدة بنت صعصعة بن ناجية. وكانت بكرة أول عربية ركبت البحر. وروى الزجاجي في أماليه الصغرى قال: ورد يزيد بن الحكم الثقفي من الطائف على الحجاج بن يوسف بالعراق، وكان شريفاً شاعراً، فولاه الحجاج فارس، فلما جاء لأخذ عهده قال له: يا يزيد أنشدنا من شعرك - يريد أن ينشده مديحاً له - فأنشده: الوافر من يك سائلاً عني فإني *** أنا ابن الصيد من سلف ثقيف وفي وسط البطاح محل بيتي *** محل الليث من وسط الغريف وفي كعب ومن كالحي كعب *** حللت ذؤابة الجبل المنيف حويت فخارها غوراً ومجد *** وذلك منتهى شرف الشريف نماني كل أصيد لا ضعيف *** بحمل المعضلات ولا عنيف فوجم الحجاج وأطرق ساعة، ثم رفع رأسه فقال: الحمد لله، أحمده وأشكره إذ لم يأت علينا زمان إلا وفينا أشعر العرب! ثم قال: أنشدنا يا يزيد. فأنشأ يقول: الكامل وأبي الذي فتح البلاد بسيفه *** فأذلها لبني الزمان الغابر وأبي سلب ابن كسرى راية *** في الملك تخفق كالعقاب الكاسر وإذا فخرت فخرت غير مكذب *** فخراً أدق به فخار الفاخر فقام الحجاج مغضباً، ودخل القصر وانصرف يزيد - والعهد في يده - فقال الحجاج لخادمه: اتبعه وقل له أردد علينا عهدنا، فإذا أخذته فقل له: هل ورثك أبوك مثل هذا العهد؟! ففعل الخادم وأبلغه الرسالة. فرد عليه العهد فقال: قل للحجاج: أورثني أبي مجده وفعاله، وأورثك أبوك أعنزاً ترعاها. ثم سار تحت الليل، فلحق بسليمان وهو ولي عهد الوليد؛ فضمه إليه وجعله في خاصته. ومدحه بقصائد، فقال له سليمان: كم كان أجري لك في عمالة فارس؟ قال: عشرين ألفاً.قال: هي لك علي ما دمت حياً. ومما مدحه به هذه القصيدة، ومطلعه: البسيط أمسى بأسماء هذا القلب معمود *** إذا أقول صحا يعتاده عيدا كأن أحور من غزلان ذي بقر *** أهدى لنا شبه العينين والجيدا أجري على موعد منها فتخلفني *** فلا أمل ولا توفي المواعيدا كأنني يوم أمسي لا تكلمني *** ذو بغية يشتهي ما ليس موجودا ومنها: سميت باسم امرئ أشبهت شيمته *** فصلاً وعدلاً سليمان بن داودا أحمد به في الورى الماضين من ملك *** وأنت أصبحت في الباقين محمودا لا يبرأ الناس من أن يحمدوا ملك *** أولاهم في الأمور الحلم والجودا ومن الناس من ينسب هذه الأبيات لعمر بن أبي ربيعة، وذلك خطأ. وفي الأغاني بسنده إلى ابن عائشة قال: دخل يزيد بن الحكم على يزيد ابن المهلب في سجن الحجاج - وهو يعذب - وقد حل عليه نجم كان قد نجم عليه، وكانت نجومه في كل أسبوع ستة عشر ألف درهم، فقال له: المنسرح أصبح في قيدك السماحة والجو *** د وفضل الصلاح والحسب لا بطر إن تتابعت نعم *** وصابر في البلاء محتسب برزت سبق الجياد في مهل *** وقصرت دون سعيك العرب قال: فالتفت يزيد إلى مولى له، وقال: أعطه نجم هذا الأسبوع، ونصير على العذاب إلى السبت الآخر. وليزيد بن الحكم عدة قصائد يعاتب فيها أخاه عبد ربه بن الحكم، وابن عمه عبد الرحمن بن عثمان بن أبي العاص. ومما قاله في ابن عمه: ومولى كذئب السوء لو يستطيعني *** أصاب دمي يوماً بغير قتيل وأعرض عما ساءه، وكأنم *** يقاد إلى ما ساءني بدليل مجاملة مني وإكرام غيره *** بلا حسن منه ولا بجميل ولو شئت لولا الحلم جدعت أنفهبإيعاب جدع بادئ وعليل حفاظاً على أحلام قوم رزئتهم *** رزان يزينون الندي كهول وقال في أخيه عبد ربه: البسيط أخي يسر لي الشحناء يضمره *** حتى ورى جوفه من غمره الداء حران ذو غصة، جرعت غصته *** وقد تعرض دون الغصة الماء حتى إذا ما أساغ الريق أنزلني *** منه كما ينزل الأعداء أعداء أسعى فيكفر سعي ما سعيت له *** إني كذاك من الإخوان لقاء وكم يد ويد لي عنده ويد *** يعدهن ترات وهي آلاء والغريف بفتح الغين المعجمة هو الأجمة والغابة. وأما عيسى بن عمر فهو عيسى بن عمر الثقفي، مولى خالد بن الوليد. أخذ عن أبي عمرو بن العلاء، وعبد الله بن إسحاق. وروى عن الحسن البصري والعجاج، ورؤبة، وجماعة - وعنه أخذ الأصمعي وغيره - وكان يتقعر في كلامه، حكى عنه الجوهري في الصحاح، أنه سقط عن جمار، فاجتمع عليه الناس فقال: مالي أراكم تكأكأتم علي تكأكؤكم على ذي جنة؟ افرنقعوا عني! واتهمه عمر ابن هبيرة بوديعة، فضربه نحو ألف سوط. فجعل يقول. والله إن كانت إلا أثياباً في أسيفاط قبضها عشاروك! مات سنة تسع وأربعين، وقيل سنة خمسين ومائة، كذا في معجم النحويين للسيوطي. والبيت الذي مثل به ابن جني ووعدنا بشرحه هو من أبيات رواها أبو زيد في نوادره قال: إنها لراجز يصف بها جندياً، وهي: يحجل فيها مقلز الحجول *** بغياً على شقيه كالمشكول يخط لام ألف موصول *** والزاي والرا أيما تهليل خط يد المستطرق المسؤول الجندب بفتح الدال وضمها: ضرب من الجراد؛ وقال أبو الحسن الأخفش في شرح نوادر أبي زيد: قال أبو العباس ثعلب إنه عنى غراباً يحجل. قال في العباب: الحجلان: مشية المقيد، يقال حجل الطائر يحجل بضم الجيم وكسرها، إذا نزا في مشيه؛ والحجول بفتح المهملة وضم الجيم صفة الجندب والغراب. وضمير فيها للأرض. والمقلز بكسر الميم وفتح اللام، أراد به رجل الجندب والغراب لأنه اسم آلة من قلز الغراب والعصفور في مشيهما، وكل من لا يمشي مشياً فهو يقلز بضم اللام وكسرها قلزاً بسكون اللام. ورواه أبو حاتم بفتح الميم وكسر اللام، فيكون مصدراً ميمياً. وزعم الأخفش في شرح النوادر أنه مقلوب مقزل من القزل بفتحتين وهو أسوأ العرج. وقد قزل بالكسر فهو أقزل، والقزلان: العرجان، وقد قزل بالفتح قزلاناً: إذا مشى مشية العرجان. ولا حاجة إلى ادعاء القلب، لأن مادة قلز ثابتة مذكورة في العباب والقاموس ، ولم يقل أحد أنها مقلوبة من قزل. ثم قال الأخفش: روى لي ثعلب: مقلز الحجول بكسر الميم، ولا وجه له عند أهل العربية، لأن المقلز هو الحجول، ولا يضاف الشيء إلى نفسه: والرافع في الحجول أجود وإن كان الشعر يصير مقوى. وقد روي بالرفع. وفيه مع هذا عيب، وهو أنه حذف التنوين من مقلز لسكونها وسكون اللام. وحذف التنوين هو الذي شجع من رواه مخفوضاً ولم يتأمل المعنى، والإقواء أصلح من الإحالة. انتهى. أقول: هذا تطويل بلا طائل، يعلم فساده مما قدمناه. على أن المقلز لم يقل أحد إنه بمعنى الحجول. والبغي هنا: الاختيال والمرح. والمشكول: الذي في رجليه شكال، يقال: شكلته شكلاً من باب قتل: قيدته بالشكال، وشكلت الكتاب شكلاً: أعلمته بعلامات الإعراب. وقوله بخط الباء متعلقة بيحجل، ويجوز أن يكون بمثناة تحتية مضارع خط، فيكون ضميره المستتر للمقلز ولام الألف مفعوله. وموصول وصف اللام، والصلة محذوفة أي موصول بها أي بالألف. والزاي والرا منصوبان بالعطف على محل لام ألف. وقوله: أيما تهليل منصوب بفعل محذوف، وما زائدة، أي: هلل تهليلاً، أي: تهليل، وهو مصدر هلل، بمعنى نكص وجبن وفر وخط منصوب على المصدر التشبيهي، أي: بخط لام ألف كخط يد الكاهن المسؤول منه التكهن. والمستطرق: الكاهن الذي يطرق الحصى بعضه ببعض، والطرق: ضرب الكاهن الحصى، وقد استطرقته أنا؛ روي بكسر الراء وفتحها. وقد أورد هذه الأبيات ابن الأعرابي أيضاص في نوادره. قال أنشدنيها المفضل وذكر داراً خلت من أهلها فصار فيها الغربان والظباء والوحوش. ثم قال: المستطرق: الذي يتكهن، فإذا سئل عن شيء خط في التراب ونظر. وحكى عن أعرابي قال: عالجت جارية شابة فإذا قلزة كأنها أتان وحش. قال: القلزة: الشديدة، والقلز: النحاس الذي لا يعمل فيه الحديد. وقال أبو المنهال: هو القلز ولم يعرف القلز: وروي الحجول بضمتين على أنه مصدر. وروي نعبا بدل بغيا، بفتح النون وسكون العين المهملة بعدها موحدة، وهو صوت الغراب. وروي تفصيل بدل تهليل . وأنشد بعده وهو وهو من شواهد سيبويه: أحضر الوغى وهو قطعة من بيت وهو: ألا أيهذا اللائمي أحضر الوغى *** وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي على أن نصب أن المقدرة في مثل هذا ضعيف وقال في باب نواصب الفعل: نصبها في مثله شاذ، والكوفيون يجوزون النصبل في مثله قياساً. أقول: ذهب الكوفيون إلى أنها تعمل محذوفة في غير المواضع المعدودة. واستدلوا بهذا البيت فقالوا: الدليل على صحة هذا التقدير أنه عطف عليه قوله: وأن أشهد فدل على أنها تنصب مع الحذف. ومنع البصريون ذلك بأن عوامل الأفعال ضعيفة لا تعمل مع الحذف، وإذا حذفت ارتفع الفعل؛ ومنه عند سيبويه قوله تعالى: {قل أفغير الله تأمروني أعبد}. وقالوا: رواية البيت عندنا إنما هي بالرفع، فقال سيبويه أصله أن أحضر فلما حذفت أن ارتفع؛ وأن أحضر مجرور بفي مقدرة وأن أشهد معطوف على المعنى، لأنه لما قال أحضر دل على الحضور كما تقول: من كذب كان شراً له، أي: كان الكذب. كذا نقلوا عنه؛ ولئن صحت رواية النصب فهو محمول على أنه توهم أنه أتى بأن، فنصب، كقوله: بدا لي أني لست مدركاً ما مضى *** ولا سابق شيئاً إذا كان جائيا بجر سابق على توهم أنه قال: لست بمدرك ما مضى. وهذا لا يجوز القياس عليه. وروي ألا أيهذا الزاجي ، وروي أيضاً ألا أيها اللاحي بتشديد الياء. والوغى: الحرب، وأصله الأصوات التي تكون فيها، وقال ابن جني: الوغى بالمهملة: الصوت، وبالمعجمة: الحرب نفسها. والشهود: الحضور، يقال: شهدت المجلس بمعنى حضرته. وأخلده: أبقاه. ومعنى البيت: يا من يلومني في حضور الحرب لئلا أقتل، وفي أن أنفق مالي لئلا أفتقر، ما أنت مخلدي إن قبلت منك، فدعني أنفق مالي في الفتوة ولا أخلفه لغيري. وهذ البيت من قصيدة طرفة بن العبد، وهي إحدى المعلقات السبع. ونذكر ترجمته وأخباره في موضع آخر إن شاء الله تعالى. وبعد هذا البيت: فإن كنت لا تستطيع دفع منيتي *** فذرني أبادرها بما ملكت يدي يقول: إن كنت لا تقدر أن تدفع موتي فذرني أسبق الموت بالتمتع بإنفاق مالي. يريد أن الموت لابد منه فلا معنى للبخل وترك اللذات. وأنشد بعده: وهو وهو قطعة من بيت ثان أنشدهما الفراء، وهما: الله يعلم أن في تلفتن *** يوم الفراق إلى أحبابنا صور وأنني حوثما يثني الهوى بصري *** من حوثما سلكوا أدنو فأنظور على أن الواو حاصلة من إشباع الضمة، وأصله أنظر. ويروى إلى إخواننا بدل أحبابنا. والصور بصاد مهملة: جمع أصور، وهو المائل من الشوق من صور يصور صوراً بالتحريك: مال. وأصاره فانصار: أماله فمال. ويجوز أن يكون جمع صورة ، أي: إذا تلفتنا إلى الأحباب عند رحيلهم فكأننا أشكال وأشباح ليس فيها أرواح. وأنني بفتح الهمزة. ووحوث ظرف مكان، لغة في حيث، بتثليث الثاء فيهما؛ وهو خبر أن. وما زائدة. وثناه: أماله. والهوى: العشق، وهو فاعل، وبصري مفعوله. أي: أنا في الجهة التي يميل الهوى بصري إليها. وقوله: من حوثما روى في الموضعين حيثما متعلق بأدنو وبأنظر، أي: أدنو فأنظر إليهم من الجهة التي سلكوا فيها. وروى ابن جني في سر الصناعة ، وفي الخصائص ، وفي المبهج: يسري بدل يثني، وزاد في المحتسب فقال: هكذا روى أبو علي يسري من سريت، ورواه ابن الأعرابي يشري بالشين معجمة أي: يعلق ويحرك الهوى بصري؛ وما أحسن هذه الرواية وأظرفها! انتهى. أما الأول فهو مضارع سريت الثوب عني سرياً، لغة في سروته عني سرواً بمعنى ألقيته. وأما الثاني فهو مضارع أشريته، متعدي شري البرق شرى من باب فرح، إذا كثر لمعانه، وشري زمام الناقة إذا كثر اضطرابه، وشرى الرجل واستشرى إذا لج في الأمر. وقوله: أدنو فأنظور روى ابن جني موضعه أثني فأنظور ، أي: أثني عنقي فأنظر نحوهم، من ثناه بمعنى لواه. قال أبو علي، وتبعه ابن جني: لو سميت رجلاً بأنظر لمنعته الصرف للتعريف ووزن الفعل، ولو سميته بأنظور من قول الشاعر أدنو فأنظور لصرفته لزوال لفظ الفعل، وإن كنا نعلم أن الواو إنما تولدت من إشباع ضمة الظاء وأن المراد عند الجميع: أنظر. وأنشد بعده: وهو ينباع من ذفرى غضوب جسره *** زيافة مثل الفنيق المكدم على أن الألف تولدت من إشباع الفتحة، والأصل ينبع، كذا قال جماعة؛ وقال ابن الأعرابي: ينباع ينفعل، من باع يبيع إذا مر مراً ليناً فيه تلو، وأنكر أن يكون الأصل فيه ينبع، قال: ينبع يخرج كما ينبع الماء من الأرض، ولم يرد هذا، إنما أراد السيلان وتلويه على رقبتها. وفي العباب: وانباع العرق سال؛ وأنشد هذا البيت؛ وقال: ويروى ينبع ، وقيل ينبع فتولدت الألف من إشباع الفتحة، ويروى ينهم أي: يذوب، يقال همه المرض إذا أذابه، وانهم الشحم والبرد: ذابا. وإنكار ابن الأعرابي رواية ينبع مردود برواية الثقات؛ وقوله: ليس المراد ينبع إلخ، مردود أيضاً، فإن الذفرى هو الموضع الذي يعرق من الإبل خلف الأذن. وفاعل ينباع ضمير عائد على الرب والكحيل في البيت السابق، وجملة ينباع خبر كأن، وهو: الكامل وكأن رب وكحيلاً معقد *** حش الوقود به جوانب قمقم الرب بضم المهملة معروف، وهو شبيه الدبس والكحيل بضم الكاف وفتح الحاء المهملة: القطران؛ شبه عرق الناقة بهما. وقال الخطيب التبريزي: وقيل الكحيل هناء تهنأ به الإبل من الجرب، شبيه بالنفط، يقال له الخضخاض. وقال أبو جعفر النحوي: هو رديء القطران، يضرب إلى الحمرة ثم يسود إذا عقد. وفي العباب: الكحيل مصغر: الذي يطلى به الإبل للجرب وهو النفط، قاله الأصمعي. قال: والقطران إنما يطلى به للدبر والقراد وشبه ذلك؛ وأنشد هذا البيت. ومعقد: اسم مفعول من أعقد، وهو أوقد تحته النار حتى انعقد وغلظ. قال في الصحاح: وعقد الرب وغيره أي: غلظ، فهو عقيد، أعقدته تعقيداً. قال الكسائي: يقال للقطران والرب ونحوه أعقدته حتى تعقد ، وهو وصف الثاني لا الأول فإن الرب يكون معقداً. وحش بالحاء المهملة، يقال: حششت النار إذا أوقدتها. والوقود بفتح الواو: الحطب، والوقود بالصم المصدر؛ وهو فاعل حش. وجوانب مفعوله؛ ويجوز أن يكون حش بمعنى احتش أي اتقد، كما يقال: هذا لا يخلطه شيء بمعنى لا يختلط به؛ فيكون جوانب منصوباً على الظرف، كذا في شرح أبي جعفر النحوي . والقمقم كهدهد: الجرة وآنية معروفة. قال القاضي أبو الحسين الزوزني في شرحه: شبه العرق السائل من رأسها وعنقها برب وقطران جعل في قمقم أوقدت عليه النار، فهو يترشح به عند الغليان، وعرق الإبل شبهه بهما وشبه رأسها بالقمقم في الصلابة. وتقدير البيت: وكأن رب وكحيلاً حش الوقود بإغلائه في جوانب قمقم، عرقها الذي يترشح منها والذفرى بكسر الذال المعجمة وسكون الفاء، من القفا: الموضع الذي يعرق من الإبل خلف الإذن، يقال هذه ذفرى أسيلة، لا تنون لأن ألفها للتأنيث، وبعضهم ينون ويجعل ألفها للإلحاق، وهي مأخوذة من ذفر العرق؛ لأنها أول ما يعرق من الإبل الذفريان، وأول ما يبدو فيه السمن لسانه وكرشه، وآخر ما يبقى فيه السمن عينه وسلاماه وعظام أخفاقه. والغضوب بالغين والضاد المجمعتين قالوا: هي الناقة العبوس، والمراد الناقة الصعبة الشديدة المراس، قال الخطيب في شرحه تبعاً لأبي جعفر: الغضوب والغضبى واحد، وغضوب للتكثير كما يقال ظلوم وغشوم ؛ وروى شارح شواهد التفسيرين: من ذفرى أسيل ، قال: والأسيل من كل شيء: المسترسل الطويل السهل. وهذه الرواية غير صحيحة، لأنه إن كان بإضافة ذفرى إليه فكان يجب أن يقول أسيلة لأن كلامه في الناقة بدليل ما بعده: وإن كان الأسيل وصفاً للذفرى - وإن صح بتقدير ألفها للإلحاق - لكن تبقى الذفرى غير مقيدة. والجسرى بفتح الجيم وسكون السين المهملة قال في الصحاح: الجسر العظيم من الإبل، والأنثى جسرة. وفي الشروح: الجسرة الماضية في سيرها، ومنه جسر فلان على كذا، وقيل هي الضخمة القوية. وروى بدله حرة والحر: الجيد الأصل، والخالص من كل شيء. والزيافة بفتح الزاي المعجمة وتشديد المثناة التحتية والفاء، مبالغة زائف، وهو من زاف يزيف زيفاً وزيفاناً إذا تبختر في مشيته، كذا في العباب . وقال الخطيب: هي المسرعة. والفنيق بفتح الفاء وكسر النون: الفحل. المكدم: الذي لا يؤذى ولا يركب لكرامته على أهله، والمكدم بضم الميم وسكون الكاف اسم مفعول، قياسه أن يكون من أكدمه، لكنهم لم ينقلوا إلا كدمه ثلاثياً من الباب الأول والثاني، قالوا الكدم: العض بأدنى الفم كما يكدم الحمار. والمكدم بالتشديد: المعضض. وروى موضعه المقرم على وزنه، وهو: البعير الذي لا يحمل عليه ولا يذلل، وإنما هو للفحلى بكسر الفاء وسكون الحاء المهملة. قال الزوزني: يقول: ينبع هذا العرق من خلف أذن ناقة غضوب موثقة الخلق، شديدة التبختر في سيرها، مثل فحل من الإبل قد كدمته الفحول، شبهها بالفحل في تبخترها ووثاقة خلقها وضخمها. وهذان البيتان من معلقة عنترة، وهي من أجود شعره. وكانت العرب تسميها المذهبة بصيغة اسم المفعول من الإذهاب والتذهيب، وهما بمعنى التمويه والتطلية بالذهب. ومعنى المعلقة: أن العرب كانت في الجاهلية يقول الرجل منهم الشعر في أقصى الأرض فلا يعبأ به ولا ينشده أحد، حتى يأتي مكة في موسم الحج فيعرضه على أندية قريش، فإن استحسنوه روي وكان فخراً لقائله وعلق على ركن من أركان الكعبة حتى ينظر إليه، وإن لم يستحسنوه طرح ولم يعبأ به. وأول من علق شعره في الكعبة امرؤ القيس، وبعده علقت الشعراء. وعدد من علق شعره سبعة، ثانيهم طرفة بن العبد، ثالثهم زهير بن أبي سلمى، رابعهم لبيد بن ربيعة، خامسهم عنترة، سادسهم الحارث بن حلزة، سابعهم عمرو بن كلثوم التغلبي، هذا هو المشهور. وفي العمدة لابن رشيق: وقال محمد بن أبي الخطاب في كتابه الموسوم بجمهرة أشعار العرب: إن أبا عبيدة قال: أصحاب السبع التي تسمى السموط امرؤ القيس وزهير والنابغة والأعشى ولبيد وعمرو وطرفة، قال: وقال المفضل: من زعم أن في السبع التي تسمى السموط لأحد غير هؤلاء فقد أبطل. فاسقطا من أصحاب المعلقات عنترة والحارث بن حلزة، وأثبتا الأعشى والنابغة. وكانت المعلقات تسمى المذهبات، وذلك أنها اختيرت من سائر الشعر، فكتبت في القباطي بماء الذهب، وعلقت على الكعبة، فلذلك يقال: مذهبة فلان إذا كانت أجود شعره، ذكر ذلك غير واحد من العلماء. وقيل: بل كان الملك إذا استجيدت قصيدة يقول: علقوا لنا هذه، لتكون في خزانته . ونذكر إن شاء الله خبر كل واحد من أصحاب القصائد، وأنسابهم والسبب الذي دعاهم إلى قول تلك القصائد، عندما يأتي شعر كل منهم. وقد طرح عبد الملك بن مروان شعر أربعة منهم وأثبت مكانهم أربعة. وروي أن بعض أمراء بني أمية أمر من اختار له سبعة أشعار فسماها المعلقات. والسبب الذي حمل عنترة على نظم هذه القصيدة: أنه كان لا يقول من الشعر إلا البيتين والثلاثة، حتى سابه رجل من قومه فعابه بسواده وسواد أمه، وأنه لا يقول الشعر، فأجابه عنترة أبلغ جواب - نقله ابن قتيبة في طبقات الشعراء - وقال: أما الشعر فستعلم! فقال هذه القصيدة. ويستحسن منها قوله في وصف روضة: الكامل وخلا الذباب بها فليس ببارح *** غرداً كفعل الشارب المترنم هزجاً يحك ذراعه بذراعه *** فعل المكب على الزناد الأجذم البراح: الزوال. والغرد وصف من غرد، من باب فرح، إذا تغنى. يقول: خلا الذباب بهذه الروضة فلا زال يرجع صوته بالغناء كشارب الخمر. والهزج: تراكب الصوت. ومعنى يحك ذراعه بذراعه يمر إحداهما على الأخرى. والأجذم بالمعجمتين: صفة المكب، وهو المقطوع اليد؛ شبه الذباب إذا سن إحدى ذراعيه بالأخرى بأجذم يقدح ناراً بذراعيه، وهذا من عجيب التشبيه، يقال: إنه لم يقل أحد في معناه مثله؛ وقد عده أرباب الأدب من التشبيهات العقم؛ وهي التي لم يسبق إليها ولا يقدر أحد عليها، مشتق من الريح العقيم، وهي التي لا تلقح شجرة ولا تنتج ثمرة، وقد شبه بعضهم من يفرك يديه ندامة بفعل الذباب،وزاده اللطم فقال: الكامل فعل الأديب إذا خلا بهمومه *** فعل الذباب يرن عند فراغه فتراه يفرك راحتيه ندامة *** منه ويتبعها بلطم دماغه وعنترة هو عنترة العبسي بن شداد بن عمرو بن قراد؛ قال الكلبي: شداد جده غلب على اسم أبيه، وإنما هو عنترة بن عمرو بن شداد. وقال غيره: شداد عمه، تكفله بعد موت أبيه فنسب إليه. ويقال: إن أباه ادعاه بعد الكبر. وذلك أنه كان لأمة سوداء يقال لها زبيبة، وكانت العرب في الجاهلية إذا كان لأحدهم ولد من أمة استعبده. وكان لعنترة إخوة - من أمه - عبيد. وكان سبب ادعاء أبي عنترة إياه: أن بعض أحياء العرب أغاروا على قوم من بني عبس فأصابوا منهم، فتبعهم العبسيون فلحقوهم فقاتلوهم، وفيهم عنترة، فقال له أبوه: كر يا عنترة. فقال: العبد لا يحسن الكر إنما يحسن الحلاب والصر! قال: كر وأنت حر. فقاتلهم واستنقذ ما في أيدي القوم من الغنيمة؛ فادعاه أبوه بعد ذلك. وهو أحد أغربة العرب وهم ثلاثة. والثاني خفاف كغراب واسم أمه ندبة كتمرة، والثالث السليك بالتصغير واسم أمه السلكة بضم ففتح، وأمهات الثلاثة سود. وكان عنترة أشجع أهل زمانه وأجودهم بما ملكت يده، وكان شهد حرب داحس والغبراء، وحمدت مشاهده فيها، وقتل فيها ضمضما المري: أبا الحصين بن ضمضم، وأبا أخيه هرم؛ ولذلك قال في هذه القصيدة: ولقد خشيت بأن أموت ولم تدر *** للحرب دائرة على ابني ضمضم الشاتمي عرضي ولم أشتمهم *** والناذرين إذا لم القهما دمي إن يفعلا فلقد تركت أباهم *** جزر السباع وكل نسر قشعم وهذا آخر المعلقة. قال أبو عبيدة: إن عنترة، بعد ما أوت عبس إلى غطفان بعد يوم جلبة وحمل الدماء احتاج؛ وكان صاحب غارات، فكبر وعجز عنها، وكان له يد على رجل من غطفان، فخرج يتجازاه فمات في الطريق. ونقل عن أبي عبيدة أيضاً: أن طيئاً تدعي قتل عنترة، ويزعمون أن الذي قتله الأسد الرهيص وهو القائل: الوافر أنا الأسد الرهيص قتلت عمر *** وعنترة الفوارس قد قتلت والله أعلم. والعنتر في اللغة: الذباب الأزرق، الواحد عنترة؛ قال سيبويه: نونه ليست بزائدة. وأنشد بعد، وهو
|